فصل: مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.مشايعة أبي حمو صاحب تلمسان.

كان السلطان أبو حمو قد التحم ما بينه وبين السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بالصهر في ابنته وكانت عنده بتلمسان فلما بلغه مقتل أبيها واستيلاء السلطان أبي العباس ابن عمه صاحب قسنطينة على بجاية أظهر الامتعاض لذلك وكان أهل بجاية قد توجسوا الخيفة من سلطانهم بإرهاف حده وشدة بطشه وسطوته فانحرفوا عنه باطنا وكاتبوا ابن عمه بقسنطينة كما ذكرناه.
ودسوا للسلطان أبي حمو بمثلها يرجون الخلاص من صاحبهم بأحدهما فلما استولى السلطان أبو العباس وقتل ابن عمه رأوا أن جرحهم قد اندمل وحاجتهم قد قضيت فاعصوصبوا عليه وأظهر السلطان أبو حمو الامتعاض للواقعة يسر منها حسوا في ارتقاء ويجعله ذريعة للاستيلاء على بجاية لما كان يرى نفسه كفؤها بعدده وعديده وما سلف من قومه في حصارها فسار من تلمسان يجر الشوك والمدر خيم بالرشة من ساحتها ومعه أحياء زغبة بجموعهم وظعائنهم من لدن تلمسان إلى بلاد حصين من بني عامر وبني يعقوب وسويد والديالم والعطاف وحصين.
وانحجر أبو العباس بالبلد في شرذمة من الجند أعجله السلطان أبو حمو عن استكمال الحشد ودافع أهل البلد أحسن الدفاع وبعث السلطان أبو العباس عن أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو من قسنطينة كان معتقلا بها وأمر مولاه وقائد عسكره بشيرا أن يخرج معه في العساكر وساروا حتى نزلوا بني عبد الجبار قبالة معسكر أبي حمو وكانت رجالات زغبة قد وجموا من السلطان وأبلغهم النذير أنه إن ملك بجاية اعتقلهم بها فراسلوا أبا زيان وركبوا إليه واعتقدوا معه وخرج رجل البلد بعض الأيام من أعلى الحصن ودفعوا شرذمة كانت مجمرة بإزائهم فاقتلعوا خباءهم وأسهلوا من تلك العقبة إلى بسيط الرشة وعاينهم العرب بأقصى مكانهم من المعسكر فأجفلوا وتتابع الناس في الإنجفال حتى أفردوا السلطان في محيمه فحمل رواحله وسار وغصت الطرق بزحامهم وتراكم بعضهم على بعض فهلك منهم عوالم وأخذهم سكان الجبال من البربر بالنهب من كل ناحية وقد غشيهم الليل فتركوا أزوادهم ورحالهم وخلص السلطان ومن خلص منهم بعد غص الريق وأصبحوا على منجاة وقذفت بهم الطرق من كل ناحية إلى تلمسان وكان السلطان أبو حمو قد بلغه خبر خروجي من بجاية وما أحدثه السلطان بعدي في أهلي ومخلفي فكتب إلي يستقدمني قبل هذه الواقعة وكانت الأمور قد اشتبهت فتفاديت بالأعذار وأقمت بأحياء يعقوب بن علي ثم ارتحلت إلى بسكرة فأقمت بها عند أميرها أحمد بن يوسف بن مزني فلما وصل السلطان أبو حمو إلى تلمسان وقد جزع للواقعة أخذ في استئلاف قبائل رياح ليجلب بهم مع عساكره على أوطان بجاية وخاطبني في ذلك لقرب عهدي باستتباعهم وملك زمامهم ورأى أن يعول علي في ذلك واستدعاني لحجابته وعلامته وكتب بخطه مدرجة في الكتاب نصها:
الحمد لله على ما أنعم والشكر لله على ما وهب ليعلم الفقيه المكرم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون حفظه الله أنك تصل إلى مقامنا الكريم بما خصصناكم به من الرتبة المنيعة والمنزلة المنيفة وهو قلم خلافتنا والانتظام في سلك أوليائنا وقد أعلمناكم بذلك وكتب بخط يده عبد الله المتوكل على الله موسى بن يوسف لطف الله به وخار له.
وبعده بخط الكاتب ما نصه: بتاريخ السابع عشر من شهر رجب الفرد الذي من عام تسع وستين وسبعمائة عرفنا الله خيره ونص الكتاب الذي هذه مدرجته وهو بخط الكاتب: أكرمكم الله يا فقيه أبا زيد ووإلى رعايتكم إنا قد ثبت عندنا وصح لدينا ما انطويتم عليه من المحبة في مقامنا والانقطاع إلى جنابنا والتشييع قديما وحديثا لنا مع ما نعلمه من محاسن اشتملت عليها أوصافكم ومعارف فقتم فيها نظراءكم ورسوخ القدم في الفنون العلمية والآداب العربية وكانت خطة الحجابة ببابنا العلي أسماه الله إلى درجات أمثالكم وأرفع الخطط لنظرائكم قربا منا واختصاصا بمقامنا واطلاعا على خفايا أسرارنا آثرناكم بها إيثارا وقدمناكم لها اصطفاء واختيارا فاعملوا على الوصول إلى بابنا العلي أسماه الله لما لكم فيه من التنويه والقدر النبيه حاجبا لعلي بابنا ومستودعا لأسرارنا وصاحبا لكريم علامتنا إلى ماشاكل ذلك من الأنعام العميم والخير الجسيم والاعتناء والتكريم لا يشارككم مشارك في ذلك ولا يزاحمكم أحد وإن وجد من أمثالكم فاعملوه وعولوا عليه والله تعالى يتولاكم ويصل سراءكم ويوالي احتفاءكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتأدت إلي هذه الكتب السلطانية على يد سفير من وزرائه جاء إلى أشياخ الزواودة في هذا الغرض فقمت له في ذلك أحسن قيام وشايعته أحسن مشايعة وحملتهم على إجابة داعي السلطان والبدار إلى خدمته وانحرف كبراؤهم عن السلطان أبي العباس إلى خدمنه والاعتمال في مذاهبه واستقام غرضه من ذلك وكان أخي يحيى قد خلص من اعتقاله وقدم علي ببسكرة فبعثته إلى السلطان أبي حمو كالنائب عني في الوظيفة متفاديا تجشم أهوالها بما كنت نزعت عن غواية الرتب وطال علي إغفال العلم فأعرضت عن الخوض في أحوال الملوك وبعثت الهمة على المطالعة والتدريس فوصل إليه الأخ فاستكفي به في ذلك ودفعه إليه ووصلني مع هذه الكتب السلطانية كتاب رسالة من الوزير أبي عبد الله بن الخطيب من غرناطة يتشوق إلي وتأدى إلى تلمسان على يد سفراء السلطان ابن الأحمر فبعث إلي من هنالك ونصه:
بنفسي وما نفسي علي رخيصة ** فينزلني عنها المكان بأثمان

حبيب نأى عني وصم لا أنثني ** وراش سهام البين عمدا فأضناني

وقد كان هم الشيب لا كان كائنا ** فقد آدني هذا ترحل همان

شرعت له من دمع عيني موردا ** فكدر شربي بالفراق وأظماني

وأرعيته من حسن عهدي حمية ** فأجدب آمالي وأوحش أزماني

حلفت على ما عنده لي من رضى ** قياسا بما عندي فأحنث أيماني

وإني على ما نالني منه من قلى ** لأشتاق من لقياه نعبة ظمآن

سألت جنوني فيه تقريب عرسه ** فقست بحر الشوق جن سليمان

إذا ما دعا داع من القوم بإسمه ** وثبت وما استثبت شيمة هيمان

وتالله ما أصغيت فيه لعاذل ** تحاميته حتى ارعوى وتحاماني

ولا استشعرت نفسي برحمة عابد ** تظلل يوما مثله عبد رحمن

ولا شعرت من قبله بتشوق ** تخلل منها بين روح وجثمان

أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج وأما الصبر فسل به أية درج بعد أن تجاوز اللوى والمنعرج لكن الشدة تعشق الفرج والمؤمن ينشق من روح الله الأرج وإني بالصبر على إبر الزبر لا بل الضرب الهبر ومطاولة اليوم والشهر تحت حكم القهر ومن للعين أن تسلو سلو القصر عن إنسانها المبصر أو تذهل ذهول الزاهد عن سرها الرائي والمشاهد وفي الجسد مضغة يصلح إذا صلحت فكيف حاله إن رحلت عنه أو ترحت وإذا كان الفراق هو الحمام الأول فعلام المغول أعيت مراوضة الفراق على الرواق وكادت لوعة الاشتياق أن تفضي إلى السياق:
تركتموني بعد تشييعكم ** أوسع أمر الصبر عصيانا

أقرع سني ندما تارة ** وأستميح الدفع أحيانا

وربما تعللت بغشيان المعاهد الخالية وجددت رسوم الأسى بمباكرة الرسوم البالية أسائل نون النؤى عن أهليه وهيام المرقد المهجور عن مصطليه وثاء الأثافي المثلثة من منازل الموحدين وأحار بين تلك الأطلال حيرة الملحدين لقد ضلت إذا وما أنا من المهتدين كلفت لعمر الله بسائل عن جفوني المؤرقة ونائم عن شجوني المجتمعة المتفرقة ظعن عن ملال لا متبرما بشر حال وكدر الوصل بعد صفائه وضرح النصل بعد عهد وفائه.
أقل اشتياقا أيها القلب إنما ** رأيتك تصفي الود من ليس جازيا

فها أنا أبكي عليه بدم أساله وأندب في ربع الفراق آسى له وأشكو الله حال قلب صدعه وأودعه من الوجد ما أودعه لما خدعه ثم تلاه وودعه وأنشق رياه أنف ارتياح قد جدعه واستعديه على ظلم ابتدعه.
خليلي فيما عشتما هل رأيتما ** قتيلا بكى من حب قاتله قبلي

فلولا عسى الرجاء ولعله لا بل شفاعة المحل الذي حله لنشرت ألوية العتب وبثثت كتائبها كمينا في شعاب الكتب تهز من الألفات رماحا هز الأسنة وتوتر من النونات أمثال الغيم المرنة وتقود من مجموع الطرس والنقس بلقا تردي في الأعنة ولكنه أوى إلى الحرم الأمين وتفيأ ظلال الجوار المؤمن من معرة الغوار عن الشمال واليمين حرم الخلال المزنية والظلال اليزنية والهمم السنية والشيم التي لا ترضى بالدون ولا بالدنية حيث الرفد الممنوح والطير الميامن يزجر لها السنوح والمثوى الذي إليه مهما تقارع الكرام على الضيفان حول جوابي الجفان فهو الجنوح.
نسب كأن عليه من شمس الضحى ** نورا ومن فلق الصباح عمودا

ومن حل بتلك المثابة فقد اطمأن جنبه وتغمد بالعفو ذنبه ولله در القائل:
فوحقه لقد انتدبت لوصفه ** بالبخل لولا أن حمصا داره

بلد متى أذكره هيج لوعتي ** وإذا قدحت الرنذ طار شراره

اللهم غفرا وأين قراره النخيل من مثوى الألف البخيل ومكذبة المخيل وأين نائية هجر من متبرئ ممن ألحد وفجر.
من أنكر غيث مسودة ** في الأرض ينوء بمخلفها

فبنان بني مزنى مزن ** تنهل بلطف مصرفها

مزن مذحل ببسكرة ** يوما نطقت بمصحفها

شكرت حتى بعبارتها ** وبمنعها وبأحرفها

ضحكت بأبي العباس من الأ ** يام ثنايا زخرفها

وشكرت الدنيا متى عرفت ** مزن فيها بمعرفها

بل نقول لا محل للولد لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد لقد حل بينك عرى الجلد وخلد الشوق بعدك يا ابن خلدون في الصميم من الخلد فحيا الله زمانا شفيت في قربك زمانته واحتليت في ذروة مجدك جمانته ويا من لمشوق لم يفض من طول خلتك لبانته وأهلا بروض أضلت شباب معارفك بانته فحمائمه بعدك تندب فيساعدها الجندب ونواسمه ترق فتتغاشى وعشبانه تتهافت وتتلاشى وأدواحه في ارتباك وحمائمه في مأتم ذي اشتباك كأن لم تكن قمر هالات قبابه ولم يكن أنسك شارع بابه إلى صفوة الظرف ولبابه ولم يسبح إنسان عينك في ماء شبابه فلهفا عليك من درة اختلستها يد النوى ومطل بردها الدهر ولوى ونعق غراب بينها في ربوع الهوى ونطق بالزجر فما نطق عن الهوى وبأي شيء يعتاض منك أيتها الرياض بعد أن طما نهرك الفياض وفهقت الحياض ولا كان الشانيء المشنوء والحرب المهنوء من قطيع ليل أغار على الصبح فاحتمل وشارك في الأمر الناقة والجمل واستأثر جنحه ببدر النادي لما كمل فشرع الشراع فراع وواصل الإسراع فكأنما هو تمساح النيل ضايق الأحباب في البرهة واختطف بهم من الشط نزهة العين وعين النزهة ولجج بها والعيون تنظر والعبر عن الاتباع تخطر فلم يقدر إلا على الأسف والتماح الأثر المنتسف والرجوع بملء العيبة من الخيبة ووفر الحبرة من الحسرة إنما نشكو إلى الله البث والحزن ونستمطر منه المزن وبسيف الرجاء نصول إذا شرعت لليأس أسنة ونصول.
ما أقدر الله أن يدني على شحط ** من داره الحزن ممن داره صول

فإن كان كلام الفراق رغيبا لما نويت مغيبا وجللت الوقت الهني تشغيبا فلعل الملتقى يكون قريبا وحديثه يروى صحيحا غريبا إيه سيدي كيف حال تلك الشمايل المزهرة المخايل والشيم الهامية الديم؟ هل يمر ببالها من راعت بالبعد باله وأخمدت بعاصف البين ذباله؟ أو ترثي لمؤق شأنها سكب لا يفتر وشوق يبت حبال المشوق ويبتر وضنى تقصر عن حلله الفائقة صنعاء وتستر والأمر أعظم والله يستر وما الذي يضيرك صير من بلفح السموم يضيرك بعد أن أضرمت وأشعلت وأوقدت وجعلت وفعلت فعلتك التي فعلت إن تترفق بذماء أو ترد بنغبة ماء أرماق ظماء وتتعاهد المعاهد بتحية عليها شذ أنفاسك أو تنظر إ لينا من البعد بمقلة حوراء من بياض قرطاسك وسواد أنفاسك فربما قنعت الأنفس المحبة بخيال يزور وتعللت بنوال منذور ورضيت لما لم تصد العنقاء بزرزور.
يا من ترحل والرياح لأجله ** تشتاق أن يعبق شذا رياها

تحيا النفوس إذا بعثت تحية ** وإذا قرأت ترى ومن أحياها

ولئن أحييت بها فما سلف نفوسنا تفديك والله إلى الخير يهديك فنحن نقول معشر موديك ثن ولا تجعلها بيضة الديك وعذرا فإني لم أجترئ على خطابك بالفقرة الفقيرة وأدللت لدي محرابك برفع العقيرة عن نشاط بعث مرسومه ولا اغتباط بالأدب إلا بسياسة تسوسه أو في على الفترة ناموسه وإنما هو نفاق نفثة المصدور وهناء الجرب المجدور وإن تعلل به مخارق فثم قياس فارق والذي هيأ هذا القدر وسببه وسهل المكروه إلي منه وحببه ما اقتضاه الصنو يحيى أمد الله حياته وحرس من الحوادث جهاته من خطاب ارتشف لهذه القريحة العديمة بلالتها بعد أن رضي غلالتها ورسخ إلى الصهر الحضرمي سلالتها فلم يسع إلا إسعافه بما أعافه فأمليت مجيبا ما لا يعد في يوم الرهان مجيبا وأسمعته وجيبا لما ساجلت بهذه الترهات سحرا عجيبا حتى إذا ألف القلم العريان فسحه وجمح برذون الغزارة فلم أطق كبحه لم أفق من غمرة غلوه وموقف شلوه إلا وقد تحيز إلى فتك مغترا بل معترا واستقبلها ضاحكا مفترا وهش لها برا وإن كان من الخجل مصفرا وليس بأول من هجر في التماس الوصل ممن هجر أو بعث التمر إلى هجر وأي نسب بيني اليوم وبين زخرف الكلام وإجالة جياد الأقلام في محاورة الأعلام بعد أن حال الجريض دون القريض وشغل المريض عن التعريض وغلب الشوق الكسل ونشرت الشعرات البيض كأنها الأسل تروع برقط الحيات سرب الحياة وتطرق بذوات الغرر والشباب عند البيات والشيب الموت العاجل وإذا ابيض زرع صبحته المناجل والمعتبر الآجل وإذا اشتغل الشيخ بغير معاده حكم في الظاهر بإبعاده وأسره في ملكة عاده فأغض أبقاك الله وأسمح لمن قصر عن المطمح وبالعين الكليلة فالمح واغتنم لباس ثوب الثواب واشف بعض الجوى بالجواب.
تولاك الله فيما استضفت وملكت ولا بعدت ولا هلكت وكان لك أية سلكت ووسمك من السعادة بأوضح السمات وأتاح لقاءك من قبل الممات والسلام الكريم يعتمد حلال ولدي وساكن خلدي بل أخي وإن اتقيت عتبه وسيدي ورحمة الله وبركاته من محبة المشتاق إليه محمد بن عبد الله بن الخطيب في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني من عام سبعين وسبعمائة.
وكان تقدم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر إلي بعث به إلى تلمسان فتأخر وصوله حتى بعث به أخي يحيى عند وفادته على السلطان ونص الكتاب:
يا سيدي إجلالا واعتدادا وأخي ودا واعتقادا ومحل ولدي شفقة حلت مني فؤادا طال علي انقطاع أنبائك واختفاء أخبارك فرجوت أن أبلغ المنية بهذا المكتوب إليك وتخترق الموانع دونك وإن كنت في موالاتك كالعاطش الذي لا يروى والآكل الذي لا يشبع شأن من تجاوز الحدود الطبيعية والعوائد المألوفة فأنا بعد إنهاء التحية المطلولة الروض بماء الدموع وتقرير الشوق القديم اللزيم وشكوى البعاد الأليم والابتهال في إتاحة القرب قبل الفوت من الله ميسر العسير ومقرب البعيد أسأل عن أحوالك سؤال أبعد الناس مجالا في مجال الخلوص لك وأشدهم حرصا على اتصال سعادتك وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك واستقرارك ببسكرة على الغبطة بك باللجا إلى تلك الرياسة الزكية الكريمة الأب الشهيرة الفضل المعروفة القدر على البعد حرسها الله ملجأ للفضلاء ومخيما لرجال العلياء ومهبا لطيب الثناء بحوله وقوته وقاربت كل ساح السلامة فاحمدوا الله على الخلاص وقاربوا في معاملة الآمال وضنوا بتلك الذات الفاضلة عن المشاق وأبخلوا بها عن المتالف فمطلوب الحريص على الدنيا خسيس والموانع الحافة جمة والحاصل حسرة وما قل سعي يحمد حاله العاقبة والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت إنما ينال منه الضروري ومثلك لا يعجزه مع الناس العافية إضعاف ما يرجى به العمر من المأكل والمشرب وحسبنا الله.
وإن تشوفت لحال المحب تلك السيادة الفذة والبنوة البرة فالحال حال من جعل الزمام بيد القدر والسير في مهيع الغفلة والسبح في تيار الشواغل ومن وراء الأمور غيب محجوب وأجل مكتوب يؤمل فيه عادة الستر من الله إلا أن الضجر الذي تعلمونه حفظه الناس لما عجزت الحيلة وأعوز الناصر وسدت المذاهب والشأن اليوم شأن الناس فيما يقرب من الاعتدال.
وفيما يرجع إلى السلطان تولاه الله على إضعاف ما باشر سيدي من الأغياء في البر ووصل سبب الالتحام والاشتمال مع الإقبال وما ينتجه متعود الظهور وا لحمد لله.
وفما يرجع إلى الأحباب والأولاد فعلى ما علمت الآن الشوق يخامر القلوب وتصور اللقاء مما يزهد في الوطن وحاضر النعم سنى الله ذلك على أفضل حال ويسره قبل الارتحال من دار المحال.
وفيما يرجع إلى الوطن فأحوال النائم خصبا وهدنة وظهورا على العدو وحسبك فافتتاح حصن آش وبرغة القاطعة بين بلاد الإسلام ووبرة والعارين وبيغه وحصن السهلة في عام ثم دخل بلد إطريرة بنت إشبيلية عنوة والاستيلاء على ما يناهز خمسة آلاف من السبي من فتح دار الملك وبلدة قرطبة ومدينة جيان عنوة في اليوم الأغر المحجل وقتل المقاتلة وسبي الذرية وتعفية الآثار حتى لا يلم بها العمران ثم افتتاح مدينة رندة التي تلف جيان في ملاءتها دار التجر والرفاهية والبنآت الحافلة والنعم الثرة نسأل الله جل وعلا أن يصل عوائد نصره ولا يقطع عنا سيب رحمته وأن ينفع بما أعان عليه من السعي في ذلك والإعانة عليه.
ولم يتزيد من الحوادث إلا ما علمتم من أخذ الله لنسب السوء وخبث الأرض المسلوب من أثر الخير عمر بن عبد الله وتحكم شر الميتة في نفسه وإتيان النكال على حاشيته والاستئصال على نفيسه والاضطراب مستول على الوطن بعده إلا أن القرب على علالته لا يرجحه غيره.
والأندلس اليوم شيخ غزاتها عبد الرحمن بن علي ابن السلطان أبي علي بعد وفاة الشيخ أبي الحسن على بن بدر الدين رحمه الله وقد استقر بها بعد انصراف سيدي الأمير المذكور والوزير مسعود بن رحو وعمر بن عثمان بن سليمان والسلطان ملك النصارى بطرة قد عاد إلى ملكه بإشبيلية وأخوه مخلب عليه بقشتالة وقرطبة مخالفة عليه قائمة بطائفة من كبار النصارى الخائفين على أنفسهم داعين لأخيه والمسلمون قد اغتنموا هبوب هذه الريح وخرق الله لهم عوائد في باب الظهور والخير لم تكن تخطر في الآمال وقد تلقب السلطان أيده الله بعقب هذه المكنفات بالغني بالله وصدرت عنه مخاطبات بمجمل الفتوح ومفصلها يعظم الحرص على إيصالها إلى تلك الفضائل لو أمكن.
وأما ما يرجع إلى ما يتشوف إليه ذلك الكمال من شغل الوقت فصدرت تقاييده وتفاصيل يقال فها بعد ما اعتملت تلك السيادة بالانصراف يا إبراهيم ولا إبراهيم اليوم.
منها أن كتابا رفع إلى السلطان في المحبة من تصنيف ابن أبي حجلة من المشارقة فعارضته وجعلت الموضوع أشرف وهو محنة الله فجاء كتابا ادعى الأصحاب غرابته وقد وجه إلى الشرق وصحبته كتاب تاريخ غرناطة وغيره من تأليفي وتعرف تحبيسه بخانقاه سعيد السعداء من مصر وانتال الناس عليه وهو في لطافة الإعراض متكلف أغراض المشارقة من ملحه:
سلمت لمصرفي الهوى من بلد ** يهديه هواؤها لدى استنشاقه

من ينكر دعوتي فقل عني له ** تكفي امرأة العزيز من عشاقه

والله يرزق الإعانة في انتساخه وتوجهه وصدر عني جزء سميته الغيرة على أهل الخيرة وجزء سميته حمد الجمهور على السنن المشهور والإكباب على اختصار كتاب التاج للجوهري ورد حجمه إلى مقدار الخمس مع حفظ ترتيبه السهل والله المعين على مشغلة نقطع بها هذه البرهة القريبة البداءة من التتمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمطلوب المثابرة على تعريف يصل من تلك السيادة والبنوة إذ لا يتعذر وجود قافل من حج أو لاحق بتلمسان يبعثها السيد الشريف منها فالنفس شديدة التعطش والقلوب قد بلغت من الشوق والاستطلاع الحناجر والله أسأل أن يصون في البعد وديعتي منك لديه ويلبسك العافية ويخلصك وإياي من الورطة ويحملنا أجمعين على الجادة ويختم لنا بالسعادة والسلام الكريم عودا على بدء ورحمة الله وبركاته من المحب المشوق الذاكر الداعي ابن الخطيب في الثاني من جمادي الأولى من عام تسعة وستين وسبعمائة انتهى.
فأجبته عن هذه المخاطبات وتفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته فلم يكن شأوه يلحق ونص الجواب: سيدي مجدا وعلوا وواحدي ذخرا مرجوا ومحل والدي برا وحنوا ما زال الشوق مذنأت بي وبك الدار واستحكم بيننا البعاد يرعي سمعي أنباءك ويخيل إلي من أيدي الرياح تناول رسائلك حتى ورد كتابك العزيز على استطلاع وعهد غير مضاع وود ذي أجناس وأنواع فنشر بقلبي ميت السلو وحشر أنواع المسرات وقدح للقائك زناد الأمل والله أسأل الامتناع بك قبل الفوت على ما يرضيك ويسني أماني وأمانيك وحييته تحية الهائم لمواقع الغمائم والمدلج للصباح المتبلج وأملى على معترج الأولياء خصوصا فيك من اطمئنان الحال وحسن القرار وذهاب الهواجس وسكون النفرة وعموما في الدولة من رسوخ القدم وهبوب ريح النصر والظهور على عدو الله باسترجاع الحصون التي استنقذوها في اعتلال الدولة وتخريب المعاقل التي هي قواعد النصرانية غريبة لا تثبت إلا في الحلم وآية من آيات الله وإن خبيئة هذا الفتح في طيء العصور السالفة إلى هذه المدة الكريمة لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة حيث أظهر على يدها خوارق العادة وما تجد آخر الأيام من معجزات الملة وكمل فيها والحمد لله بحسن التدبير ويمن التعبية من حميد الأثر وخالد الذكر طراز في حلة الخلافة النصرية وتاج في مفرق الوزارة كتبه الله لك فما يرضاه الله من عباده ووقفت عليه الأشراف من أهل هذا العصر المحروس وأذعته في الملأ سرورا لعز الإسلام وإظهارا للنعمة واستطرادا لذكر الدولة المولوية بما تستحقه من طيب الثناء والتماس الدعاء والتحديث بنعمتها والإشادة بفضلها على الدول السالفة والخالفة وتقدمها فانشرحت الصدور حباء وامتلأت القلوب إجلالا وتعظيما وحسنت الآثار اعتقادا ودعاء.
وكان كتاب سيدي لشرف تلك الدولة عنوانا ولما عساه يستعجم من نعتي في مناقبها ترجمانا زاده الله من فضله وأمتع المسلمين سكون الغريب من الشوق المزعج والحيرة التي تكاد تذهب بالنفس أسفا لتجفي عرمها عن الأمن والتقويض عن دار العزيز المولى المنعم والسيد الكريم والبلد الطيب والإخوان البررة ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير إن تشوفت السيادة الكريمة إلى الحال فعلى ما علمتم سيرا مع الأمل ومغالبة للأيام على الحظ وإقطاعا للغفلة جانب العمر.
هل نافعي والجد في صبب ** مدى مع الآمال في صعد

رجع الله بنا إليه ولعل في عظتكم النافعة شفاء من هذا الداء العياء إن شاء الله وأن لطف الله مصاحب من هذه الرياسة المزنية وحسبك بها عليه عصمة وافية صرفت وجه القصد إلى ذخيرتي التي كنت أعتدها منهم كما علمتم حين تفاقم الخطب وتلون الدهر والإفلات من مظان النكبة وقد رنقت حولها بعدما جرته الحادثة بمهلك السلطان المرحوم على يد ابن عمه قريعة في الملك وقسيمه في النسب والتياث الجاه وتغير السلطان واعتقال الأخ المخلف واليأس منه لولا تكييف الله في نجائه والعيث بعده في المنزل والولد واغتصاب الضياع المقتناة من بقايا ما متعت به الدولة النصرية أبقاها الله من النعمة فآوى إلى الوكر وساهم في الحادث وأشرك في الجاه والمال وأعان على نوائب الدهر وطلب الوثر حين رأى الدهر قلاني وأمل الملوك استخلاصي وتجاوزوا في إتحافي والله المخلص من عقال الآمال والمرشد إلى نبذ هذه الحظوظ المورطة.
وأنبأني سيدي بما صدر عنه من التصانيف الغريبة في هذه الفتوحات الجليلة وبودي لو وقع الإتحاف بها أو بعضها فلقد عاودني الندم على ما فرطت.
وأما أخبار هذا القطر فلا زيادة على ما علمتم من استقرار السلطان أبي اسحق ابن السلطان أبي يحيى بتونس مستبدا بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره رحمة الله عليه مضايقا في حياته الوطن وأحكامه بالعرب المستظهرين بدعوته مصانعا لهم بوفرة على أمان الرعايا والسابلة لو أمكن حسن السياسة جهد الوقت ومن انتظام بجاية محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة خلافا كما علمتم محملا الدولة بصرامته وقوة شكيمته فوق طوقها من الاستبداد والضرب على أيدي المستقلين من الأعراب منتقض الطاعة أكثر أوقاته لذلك إلا ما شمل البلاد من تغلب العرب ونقص الأرض من الأطراف والوسط وخمود ذبال الدول في كل جهة وكل بداية إلى تمام.
وأما أخبار المغرب الأقصى والأدنى فلديكم طلعه وأما المشرق فأخبار الحاج هذه السنة من اختلاله وانتقاض سلطانه وانتزاء الجفاة على كرسية وفساد المصانع والسقايات المعدة لوفد الله وحاج بيته ما يسخن العين ويطيل البث حتى زعموا أن الهيعة اتصلت بالقاهرة أياما وكثر الهرج في أزقتها وأسواقها لما وقع بين سندمر المتغلب بعد يلبغا الخاصكي وبين سلطانه ظاهر القلعة من الجولة التي كانت دائرتها عليه أجلت عن زهاء الخمسمائة قتلى من حاشيته وموالي يلبغا وتقبض على الباقين فأودع منهم السجون وصلب الكثير وقتل سندمر في محبسه وألقى زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان فقام بها مستبدا وقادها مستقلا وبيد الله تصاريف الأمور ومظاهر الغيوب جل وعلا.
ورغبتي من سيدي أبقاه الله أن لا يغب خطابه عني متى أمكن أن يصل منته الجمة وأن يقبل عني أقدام تلك الذات المولوية ويعرفه بما عندي من التشيع لسلطانه والشكر لنعمته وأن ينهي عني لحاشيته وأهل اختصاصه التحية المختلسة من أنفاس الرياض كبيرهم وصغيرهم.
وقد تأذى مني إلى حضرته الكريمة خطاب على يد الحاج نافع سلمه الله تناوله من الأخ يحيى عند لقائه إياه بتلمسان بحضرة السلطان أبي حمو أيده الله فربما يصل وسيدي يوضح من ثنائي ودعاني ما عجز عنه الكتاب والله يبقيكم ذخرا للمسلمين وملاذا للأملين بفضله والسلام الكريم عليكم وعلى من لاذ بكم من السادة الأولاد المناجيب والأهل والحاشية والأصحاب من المحب فيكم المعتد بكم شيعة فضلكم ابن خلدون ورحمة الله وبركاته.
عنوانه سيدي وعمادي ورب الصائع والأيادي والفضائل الكريمة الخواتم والمبادي إمام الأمة علم الأئمة تاج الملة فخر العلماء عماد الإسلام مصطفى الملوك الكرام كافل الإمامة تاج الدول أثير الله ولي أمير المؤمن الغني بالله أيده الله الوزير أبو عبد الله بن الخطيب أبقاه الله وتولى عن المسلمين جزاه.
وكتب إلي من غرناطة: يا سيدي وولي وأخي ومحل ولدي كان الله لكم حيث كنتم ولا أعدمكم لطفه وعنايته لو كان مستقركم بحيث يتأتى الله ترديد رسول وإنفاذ مقتطع أو توجيه نائب لرجعت على نفسي باللائمة في إغفال حقكم ولكن العذر ما علمتم واحمدوا الله على الاستقرار في كنف ذلك الفاضل الذي وسعكم كنفه وشملكم فضله شكرا لله حسبه الذي لم يخلف وشهرته التي لم تكدر.
وإني اغتنمت سفر هذا الشيخ وافد الحرمين بمجموع الفتوح في إيصال كتابي هذا وبودي لو وقفتم على ما لديه من البضاعة التي أنتم رأسها وصدرها فيكون لكم في ذلك بعض أنس وربما تأدى ذلك في بعضه مما لم يختم عليه وظواهر الأمور نحيل عليه في تعريفكم بها وأما البواطن فما لا تتأتى كثرة وجمامة وأخص ما أظن تشوفكم إليه حالي فاعلموا أني قد بلغ بي الماء الزبى واستولى علي سوء المزاج المنحرف وتوالت الأمراض وأعوز الشفاء لبقاء السبب والعجز عن دفعه وهي هذه المداخلة جعل الله عاقبتها إلى خير ولم أترك وجها من وجوه الحيلة إلا بذلته فما أغنى عني شيئا ولولا أني بعدكم شغلت الفكر بهذا التأليف مع الزهد وبعد العهد وعدم الإلماع بمطالعة الكتب لم تتمش من طريق فساد الفكر إلى هذا الحد وأخر ما صدر عني كناش سميته باستنزال اللطف الموجود في أسر الوجود أمليته في هذه الأيام التي أقيم فيها رسم النيابة عن السلطان في سفره إلى الجهاد بودي لو وقفتم عليه وعلى كتابي في المحبة وعسى الله أن ييسر ذلك.
ومع هذا كله والله ما قصرت في الحرص على إيصال مكتوب إليكم إما من جهة أخيكم أومن جهة السيد الشريف أبي عبد الله حتى في المغرب إذا سمعت الركب متوجها منه فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا والأحوال كلها على ما تركتموها عليه وأحبابكم بخير على ما علمتم من الشوق والتشوف والارتماض على مفارقتكم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والله يحفظكم ويتولى أموركم والسلام عليكم ورحمة الله من المحب الواحش ابن الخطيب في ربيع الثاني من عام إحدى وسبعين وسبعمائة.
وبباطنه مدرجة نصها:
سيدي رضي الله عنكم إستقر بتلمسان في سبيل تقلب ومسارعة مزاج تعرفونه صاحبنا المقدم في الطب أبو عبد الله الشقوري فإذا اتصل بكم فأعينوه على ما يقف عليه اختياره وهذا لا يحتاج معه إلى مثلكم.
عنوانه سيدي ومحل أخي الفقيه الجليل الصدر الكبير المعظم الرئيس الحاجب العالم الفاضل الوزير ابن خلدون وصل الله سعده وحرس مجده بمنه.
وإنما طولت بذكر هذه المخاطبات وإن كانت فيما يظهر خارجة عن غرض الكتاب لأن فيها كثيرا من أخباري وشرح حالي فيستوفي ذلك منها ما يتشوف إليه من المطالعين للكتاب.
ثم إن السلطان أبا حمو لم يزل معتملا في الإجلاب على بجاية واستئلاف قبائل رياح لذلك ومعولا علي مشايعتي فيه ووصل يده مع ذلك بالسلطان أبي اسحق ابن السلطان أبي بكر صاحب تونس من بني أبي حفص لما كان بينه وبين أخيه صاحب بجاية وقسنطينة من العداوة التي تقتضيها مقاسمة النسب والملك فكان يوفد رسله عليه في كل وقت ويمرون بي وأنا ببسكرة فأكد الوصلة بمخاطبة كل منهما وكان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو بعد إجفاله عن بجاية واختلال معسكره قد سار في أثره إلى تلمسان وأجلب على نواحيها فلم يظفر بشيء وعاد إلى حصين فأقام بينهم واشتملوا عليه ونجم النفاق في سائر أعمال المغرب الأوسط ولم يزل يستألفهم حتى اجتمع له الكثير منهم فخرج في عساكره منتصف تسع وستين وسبعمائة إلى حصين وأبي زيان واعتصموا بجبل تيطري وبعث إلي في استنفار الزواودة للأخذ بحجزتهم من جهة الصحراء وكتب يستدعي أشياخهم يعقوب بن علي كبير أولاد محمد وعثمان بن يوسف كبير أولاد سباع بن يحيى وكتب إلى ابن مزنى قعيدة وطنهم بامدادهم في ذلك فأمدهم وسرنا مغربين إليه حتى نزلنا القطفا بتل تيطري وقد أحاط السلطان به من جهة التل على أنه إذا فرغ من شأنهم سار معنا إلى بجاية وبلغ الخبر إلى صاحب بجاية أبي العباس فعسكر بمن استألف من بقايا قبائل رياح وعسكر بطرف ثنية القطفا المفضية إلى المسيلة وبينما نخن على ذلك اجتمع المخالفون من زغبة وهم خالد بن عامر كبير بني عامر وأولاد عريف كبراء سويد ونهضوا إلينا بمكاننا من القطفا فأجفلت أحياء الزواودة وتأخرنا إلى المسيلة ثم إلى الزاب وسارت زغبة إلى تيطري واجتمعوا مع أبي زيان وحصين وهجموا على معسكر أبي حمو ففلوه ورجع منهزما إلى تلمسان.
ولم يزل من بعد ذلك على استئلاف زغبة ورباح يؤمل الظفر بوطنه وابن عمه والكزة على بجاية عاما فعاما وأنا على حالي في مشايعته وايلاف ما بينه وبين الزواودة والسلطان أبي اسحق صاحب تونس وابنه خالد من بعده ثم دخلت زغبة في طاعته واجتمعوا على خدمته ونهض من تلمسان لشفاه نفسه من حصين وبجاية وذلك في أخريات إحدى وسبعين وسبعمائة فوفدت عليه بطائفة من الزواودة أولاد عثمان بن يوسف بن سليمان لنشارف أحواله ونطالعه بما يرسم له في خدمته فلقيناه بالبطحاء وضرب لنا موعدا بالجزائر انصرف به العرب إلى أهليهم وتخلفت بعدهم لقضاء بعض الأغراض واللحاق بهم وصليت به عيد الفطر على البطحاء وخطبت به وأنشدته عند انصرافه من المصلى تهنئة بالعيد وغرضه:
هذي الديار فحيهن صباحا ** وقف المطايا بينهن طلاحا

لا تسأل الأطلال إن لم تروها ** عبرات عينك واكفا ممتاحا

فلقد أخذن على جفونك موثقا ** أن لا يرين مع البعاد شحاحا

إيه على الحي الجميع وربما ** طرب الفؤاد لذكرهم فارتاحا

ومنازل للظاعنين استعجمت ** حزنا وكانت بالسرور فصاحا

وهى طويلة ولم يبق في حفظي منها إلا هذا.
وبينما نحن في ذلك إذ بلغ الخبر بأن السلطان عبد العزيز صاحب المغرب الأقصى من بني مرين قد استولى على جبل عامر بن محمد الهنتاني بمراكش وكان أخذ بمخنقه منذ حول وساقه إلى فاس فقتله بالعذاب وأنه عازم على النهوض إلى تلمسان لما سلف من السلطان أبي حمو إثناء حصار السلطان عبد العزيز لعامر في جبله من الإجلاب على ثغور المغرب ولحين وصول هذا الخبر أضرب السلطان أبو حمو على ذلك الذي كان فيه وكر راجعا إلى تلمسان وأخذ في أسباب الخروج إلى الصحراء مع شيعة بني عامر من أحياء زغبة فاستألف وجمع وسدد الرجال وقضى عيد الأضحى وطلبت منه الإذن في الانصراف إلى الأندلس لتعذر الوجهة إلى بلاد رياح وقد أظلم الجو بالفتنة وانقطعت السبل فأذن لي وحملني رسالة إلى السلطان ابن الأحمر وانصرفت إلى المرمى بهنين وجاءه الخبر بنزول صاحب المغرب تازا في عساكره فأجفل بعدي من تلمسان ذاهبا إلى الصحراء على طريق البطحاء وتعذر علي ركوب البحر من هنين فأقصرت وتأدى الخبر إلى السلطان عبد العزيز بأني مقيم بهنين وأن معي وديعة احتملتها إلى صاحب الأندلس تخيل ذلك بعض الغواة وكتب به إلى السلطان عبد العزيز فأنفذ من وقته سرية من تازا تعترضني لاسترجاع تلك الوديعة واستمر هو إلى تلمسان ووافتني السرية بهنين وكشفوا الخبر فلم يقفوا على صحته وحملوني إلى السلطان فلقيته قريبا من تلمسان واستكشفني عن ذلك الخبر فأعلمته بنفيه وعنفنني على مفارقة دارهم فاعتذرت له لما كان من عمر بن عبد الله المستبد عليهم وشهد لي كبير مجلسه وولي أبيه وابن وليه ونزمار بن عريف ووزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة واحتفت الألطاف وسألني في ذلك المجلس عن أمر بجاية وأفهمني أنه يروم تملكها فهونت عليه السبيل في ذلك فسر به وأقمت تلك الليلة في الاعتقال ثم أطلقني من الغد فعمدت إلى رباط الشيخ الولي أبي مدين ونزلت بجواره مؤثرا للتخلي والانقطاع للعلم لو تركت له مشايعة السلطان عبد العزيز صاحب المغرب على بني عبد الواد.
ولما دخل السلطان عبد العزيز إلى تلمسان واستولى عليها وبلغ خبره إلى أبي حمو وهو بالبطحاء فأجفل من هنالك وخرج في قومه وشيعته من بني عامر ذاهبا إلى بلاد رياح فسرح السلطان وزيره أبا بكر بن غازي في العساكر لاتباعه وجمع عليه أحياء زغبة والمعقل باستئلاف وليه ونزمار وتدبيره ثم أعمل السلطان نظره ورأى أن يقدمني أمامه إلى بلاد رياح لأوطيء أمره وأحملهم على مناصرته وشفاء نفسه من عدوه بما كان السلطان أيس من استتباع رياح وتصريفهم فيما يريده من مذاهب الطاعة فاستدعاني من خلوتي بالعبادة عند رباط الولي أبي مدين وأنا قد أخذت في تدريس العلم واعتزمت على الانقطاع فآنسني وقربني ودعاني لما ذهب إليه من ذلك فلم يسعني إلا إجابته وخلع علي وحملني وكتب إلى شيوخ الزواودة بامتثال أمري وما ألقيه إليهم من أوامره وكتب إلى يعقوب بن علي وابن مزنى بمساعدتي على ذلك وأن يحاولوا على استخلاص أبي حمو من بين أحياء بني عامر ويحولوه إلى حي يعقوب بن علي فودعته وانصرفت في عاشوراء سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة فلحقت الوزير في عساكره وأحياء العرب من المعقل وزغبة على البطحاء ولقيته ودفعت إليه كتاب السلطان وتقدمت أمامه وشيعني ونزمار يومئذ وأوصاني بأخيه محمد وقد كان أبو حمو قبض عليه عندما أحس منهم بالخلاف وأنهم يرومون الرحلة إلى المغرب وأخرجه معه من تلمسان مقيدا واحتمله في معسكره فأكد على ونزمار في المحاولة على استخلاصه بما أمكن وبعث معي ابن أخيه عيسى في جماعة من سويد بيدروني وتقدم إلى أحياء حصين بإخراج أبي زيان من بينهم فسرنا جميعا وانتهينا إلى أحياء حصين وأخبرهم فرج بن عيسى بوصية عمه ونزمار إليهم فنبذوا إلى أبي زيان عهده وبعثوا معه من أوصله إلى بلاد رياح ونزل على أولاد يحيى بن علي بن سباع وتوغلوا به في القفر واستمريت ذاهبا إلى بلاد رياح فلما انتهيت إلى المسيلة ألفيت السلطان أبا حمو وأحياء رياح مسعكرين قريبا منها في وطن أولاد سباع بن يحيى من الزواودة وقد تسايلوا إليه وبذل فيهم العطاء ليجتمعوا إليه فلما سمعوا بمكاني من المسيلة جاؤا إلي فحملتم على طاعة السلطان عبد العزيز وأوفدت أعيانهم وأشياخهم على الوزير أبي بكر بن غازي فلقوه ببلاد الديالم عند نهر واصل فأتوه طاعتهم ودعوه إلى دخول بلادهم في اتباع عدوه ونهض معهم وتقدمت أنا من المسيلة إلى بسكرة فلقيت بها يعقوب بن علي واتفق هو وابن مزنى على طاعة السلطان وبعث ابنه محمدا للقاء أبي حمو وأمر بني عامر خالد بن عامر يدعوهم إلى نزول وطنه والبعد به عن بلاد السلطان عبد العزيز فوجده متدليا من المسيلة إلى الصحراء ولقيه على الدوسن وبات ليلتهم يعرض عليهم التحول من وطن أولاد بنى سباع إلى وطنهم بشرقي الزاب وأصبح يومه كذلك فما راعهم آخر النهار إلا انتشار العجاج خارجا إليهم من أفواه الثنية فركبوا يستشرفون وإذا بهوادي الخيل طالعة من الثنية وعساكر بني مرين والمعقل وزغبة منثالة أمام الوزير أبي بكر بن غازي قد دل بهم الطريق وفد أولاد سباع الذين بعثهم من المسيلة فلما أشرفوا على المخيم أغاروا عليه مع غروب الشمس فأجفل بنو عامر وانتهب مخيم السلطان أبي حمو ورحاله وأمواله ونجا بنفسه تحت الليل وتمزق شمل ولده وحرمه حتى خلصوا الله بعد أيام واجتمعوا بقصور مصاف من بلاد الصحراء وامتلأت أيدي العساكر والعرب من نهابهم وانطلق محمد بن عريف في تلك الهيعة وأطلق الموكلون به وجاء إلى الوزير وأخيه ونزمار وتلقوه بما يجب له وأقام الوزير أبو بكر بن غازي بالدوسن أياما أراح فيها وبعث الله ابن مزنى بطاعته وأرغد له من الزاد والعلوفة وارتحل راجعا إلى المغرب وتخلفت بعده أياما عند أهلي ببسكرة ثم ارتحلت إلى السلطان في وفد عظيم من الزواودة يقدمهم أبو دينار أخو يعقوب بن علي وجماعة من أعيانهم فسابقنا الوزير إلى تلمسان وقدمنا على السلطان فوسعنا من حبائه وتكرمته ونزله ما بعد العهد بمثله ثم جاء من بعدنا الوزير أبو بكر بن غازي على الصحراء بعد أن مر بقصور بني عامر هنالك فخربها وكان يوم قدومه على السلطان يوما مشهودا وأذن بعدها لوفود الزواودة في الانصراف إلى بلادهم وقد كان ينتظر بهم قدوم الوزير ووليه ونزمار بن عريف فودعوه وبالغ في الإحسان وانصرفوا إلى بلادهم ثم أعمل نظره في إخراج أبي زيان من بين أحياء الزواودة لما خشي من رجوعه إلى حصين فآمرني في ذلك وأطلقني إليهم في محاولة انصرافه عنهم فانطلقت لذلك وكان أحياء حصين قد توجسوا الخيفة من السلطان وتنكروا له وانصرفوا إلى أهلهم بعد مرجعهم من غزاتهم مع الوزير وبادروا باستدعاء أبي زيان من مكانه عند أولاد يحيى بن علي وأنزلوه بينهم واشتملوا عليه وعادوا إلى الخلاف الذي كانوا عليه أيام أبي حمو واشتعل المغرب الأوسط نارا ونجم صبي من بيت الملك في مغراوة وهو حمزة بن علي بن راشد فر من معسكر الوزير ابن غازي أيام مقامه عليها فاستولى على شلف وبلاد قومه وبعث السلطان وزيره عمر بن مسعود في العساكر لمنازلته وأعيا داؤه وانقطعت أنا ببسكرة وحال ذلك ما بيني وبين السلطان إلا بالكتاب والرسالة وبلغني في تلك الأيام وأنا ببسكرة مفر الوزير ابن الخطيب من الأندلس وقدومه على السلطان بتلمسان حين توجس الخيفة من سلطانه بما كان له من الاستبداد عليه وكثرة السعاية من البطانة فيه فأعمل الرحلة إلى الثغور الغربية لمطالعتها بإذن سلطانه فلما حاذى جبل الفتح قبل الفرضة دخل إلى الجبل وبيده عهد السلطان عبد العزيز إلى القائد بقبوله وأجاز البحر من حينه إلى سبتة وسار إلى السلطان بتلمسان وقدم عليه بها في يوم مشهود وتلقاه السلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النعم بما لا يعهد بمثله بهتب إلى من تلمسان يعرفني بخبره ويلم ببعض العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس ولم يحضرني الآن كتابه فكان جوابي عنه ما نصه:
الحمد لله ولا قوة إلا بالله ولا راد لما قضى الله.
يا سيدي ونعم الذخر الأبدي والعروة الوثقى التي أعلقتها يدي أسلم عليك سلام القدوم على المخدوم والخضوع للملك المتبوع لا بل أحييكم تحية المشوق للمعشوق والمدلج للصباح المتبلج وأقرر ما أنتم أعلم بصحيح عقدي فيه من حبي لكم ومعرفي بمقداركم وذهابي إلى أبعد الغايات في تعظيمكم والثناء عليكم والإشادة في الأفاق بمناقبكم ديدنا معروفا وسجية راسخة يعلم الله وكفى بالله شهيدا وهذا كما في علمكم أسنى ما اختلف أولا ولا أخرا ولا شاهدا ولا غائبا وأنتم أعلم بما تعني نفسه وأكبر شهادة بما في خفايا ضميري ولو كنت ذلك فقد سلف من حقوقكم وجميل أخذكم واجتلاب الحظ لو هيأه القدر لمساعيكم وإيثاري بالمكان من سلطانكم ودولتكم ما يستلين معاطف القلوب ويستل سخائم الهواجس فأنا أحاشيكم من استشعار نبوة أو إخفار وطن ولو تعلق بقلب ساق حرزرزور فحاش لله أن يقدح في الخلوص لكم أو يرجح سوائبكم إنما هي خبيئة الفؤاد إلى الحشر أو اللقاء وو الله وجميع ما يقسم به ما اطلع على مستكنه مني غير صديقي وصديقكم الملابس كان لي ولكم الحكيم الفاضل أبي عبد الله الشقوري أعزه الله نفثة مصدور ومباثة خلوص إذ أنا أعلم الناس بمكانه منكم وقد علم ما كان مني حين مفارقة صاحب تلمسان واضمحلال أمره من إجماع الأمر على الرحلة إليكم والخفوق إلى حاضرة البحر للإجازة إلى عدوتكم تعرضت فيهم للتهم ووقفت بمجال الظنون حتى تورطت فى الهلكة بما ارتفع عني مما لم آته ولا طويت العقد عليه لولا حلم مولانا الخليفة ولولا حسن رأيه في وثبات بصيرته لكنت في الهالكين الأولين كل ذلك شوقا إلى لقائكم وتمثلا لأنسكم فلا تظنوا بي الظنون ولا تصدقوا التوهمات فأنا من قد عملتم صداقة وسذاجة وخلوصا واتفاق ظاهر وباطن أثبت الناس عهدا وأحفظهم غيبا وأعرفهم بوزان الإخوان ومزايا الفضلاء ولأمر ما تأخر كتابي من تلمسان فإني كنت استشعر ممن استضافني ريبا بخطاب سواه خصوصا جهتكم لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة واتصال اليد مع أن الرسول تردد إلي وأعلمني اهتمامكم واهتمام السلطان تولاه الله باستكشاف ما أبهم من حالي فلم أترك شيئا مما أعلم تشوقكم إليه إلا وكشفت له قناعة وأمنته على إبلاغه ولم أزل بعد إيناس المولى الخليفة لدمئي وجذبه بضبعي سابحا في تيار الشواغل كما علمتم القاطعة حتى عن الفكر وسقطت إلي محل مجد خدمتي من هذه القاصية أخبار خلوصكم إلى المغرب قبل فصول راحلتي إلى الحضرة غير خلية ولا ملتئمة ولم يتعين ملقي العصا ولا مستقر النوى فأرجأت الخطاب إلى استجلائها وأفدت من كتابكم العزيز الجاري على سنن الفضل ومذاهب المجد غريب ما كيفه القدر من بديع الحال لديكم وعجيب تأتى أملكم الشارد فيه كما كنا نستبعده عند المفاوضة فحمدت الله لكم على الخلاص من ورطة الدول على أحسن الوجوه وأجمل المخارج الحميدة العواقب في الدنيا والدين العائدة بحسن المال في المخلف من أهل وولد ومتاع وأثر بعد أن رضتم جموح الأيام وتوقلتم قلل العز وقدتم الدنيا بحذافيرها وأخذتم بآفاق السماء على أهلها وهنيئا فقد نالت نفسكم التواقة أبعد أمانيها ثم تاقت إلى ما عند الله وأشهد لما ألهمتم للإعراض عن الدنيا ونزع اليد من حطامها عند الأصحاب والأقيال ونهى الآمال إلا جذبا وعناية من الله وحبا وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه واتصل بي ما كان من تحفي السيادة المولوية بكم واهتزاز الدولة لقدومكم ومثل هذه الخلافة أيدها الله من يثابر على المفاخر ويستأثر بالأخاير وليت ذلك عند إقبالكم على الحظ وأنسكم باجتلاء الآمال حتى يحسن المتاع ويتجمل السرير الملوكي بمكانكم فالظن أن هذا الباعث الذي هزم الآمال ونبذ الحظوظ وهون المفارق العزيز سومكم الله حتى يأخذ بيدكم إلى قضاء المجاهدة ويستوي بكم على جدد الرياضة والله يهدي للتي هي أقوم كأني بالأقدام نقلت والبصائر بإلهام الحق صقلت والمقامات خلفت بعد أن استقبلت والعرفان شيمة أنواره وبوارقه والوصول انكشفت حقائقه لما ارتفعت عوائقه وأما حالي والظن بكم الاهتمام بها والبحث عنها فغير خفية بالباب المولوي أعلاه الله ومظهرها في طاعته ومصدرها عن أمره وتصاريفها في خدمته والزعم أني قمت المقام المحمود في التشيع والإنحياش واستمالة الكافة إلى المناصحة ومخالصة القلوب للولاية وما يتشوقه مجدكم ويتطلع إليه فضلكم وأما اهتمامكم في خاصتها من النفس والولد فجهينة خبره مؤدي كتابي إليكم ناشيء تأديبي وثمرة ترتيبي فسهلوا له الإذن وألينوا له جانب النجوى حتى يؤدي ما عندكم وما عندي وخذوه بأعقاب الأحاديث إن يقف عند مباديها وائتمنوه على ما تحدثون فليس بضنين على السر وتشوقي بما يرجع به إليكم سيدي وصديقي وصديقكم المقرب في المجد والفضل المساهم في الشدائد كبير المغرب وظهير الدولة أبو يحيى بن أبي مدين كان الله له في شأن الولد والمخلف تشوق الصديق لكم الضنين على الأيام بقلامة الظفر من ذات يديكم فأطلعوه طلع ذلك ولا يهمكم بالفراق الواقع حسن فالسلطان كبير والأثر جميل والعدو الساعي قليل حقير والنية صالحة والعمل خالص ومن كان لله كان الله له واستطلاع الرياسة المرتبة الكافلة كافأ الله يده البيضاء عني وعنكم إلى مثله من أحوالكم استطلاع من يسترجح وزانكم ويشكر الزمان على ولائه بمثلكم وقد قررت من علو مناقبكم وبعد شأوكم وغريب منحاكم ما شهدت به آثاكم الشائعة الخالدة في الرياسة المتأدية على ألسنة الصادر والوارد من الكافة من حمل الدولة واستقامة السياسة ووقفته على سلامكم وهو يراجعكم بالتحية ويساهمكم بالدعاء وسلامي على سيدي وفلذة كبدي ومحل ولدي الفقيه الزكي الصدر أبي الحسن نجلكم أعزه الله وقد وقع مني موقع البشرى حلوله من الدولة بالمكان العزيز والرتبة النابهة والله يلحفكم جميعا رداء العافية والستر ويمهد لكم محل الغبطة والأمن ويحفظ عليكم ما أسبغ من نعمته ويجريكم على عوائد لطفه وعنايته والسلام الكريم يخصكم من المحب الشاكر الداعي الشائق شيعة فضلكم عبد الرحمن بن خلدون ورحمة الله وبركاته في يوم الفطر عام اثنين وسبعين وسبعمائة.
وكان بعث إلي مع كتابه نسخة كتابه إلى سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس عندما دخل جبل الفتح وصار إلى إيالة بني مرين فخاطبه من هنالك بهذا الكتاب فرأيت أن أثبته هنا وإن لم يكن من غرض التأليف لغرابته ونهايته في الجودة وأن مثله لا يهمل من مثل هذا الكتاب مع ما فيه من زيادة الاطلاع على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها ونص الكتاب:
بانوا فمن كان باكيا يبكي ** هذي ركاب السرى بلا شك

فمن ظهور الركاب معملة ** إلى بطون الربى إلى الفلك

تصدع الشمل مثل ما انحدرت ** إلى صبوب جواهر السلك

من النوى قبل لم أزل حذرا ** هذا النوى جل مالك الملك

مولاي كان الله لكم وتولى أمركم أسلم عليكم سلام الوداع وأدعو الله في تيسر اللقاء والاجتماع من بعد التفرق والانصداع وأقرر لديكم أن الإنسان أسير الأقدار مسلوب الاختيار متقلب في حكم الخواطر والأفكار وأن لا بد لكل أول من آخر وأن التفرق لما لزم كل اثنين بموت أو حياة ولم يكن منه بد كان خير أنواعه الواقعة بين الأحباب ما وقع على الوجوه الجميلة البريئة من الشرور ويعلم مولاي حال عبده منذ وصل إليكم من المغرب بولدكم ومقامه لديكم بحال قلق ولولا تعليلكم ووعدكم وارتقاب اللطائف في تقليب قلبكم وقطع نواحل الأيام حريصا على استكمال سنكم ونهوض ولدكم واضطلاعكم بأمركم وتمكن هدنة وطنكم وما تحمل في ذلك من ترك غرضه لغرضكم وما استقر بيده من عيوبهم وأن العبد الآن تسبب لكم في الهدنة من بعد الظهور والعز ونجح السعي وتأتي لسنين كثيرة الصلح ومن بعد أن لم يبق لكم بالأندلس مشغب من القرابة وتحرك لمطالعة الثغور الغربية وقرب من فرضة المجاز واتصال الأرض ببلاد المشرق لطرقته الأفكار وزعزعت صبره رياح الخواطر وتذكر أشراف العمر على التمام وعواقب الاستغراق وسيرة الفضلاء عند شمول البياض فغلبته حال شديدة هزمت التعشق بالشمل الجميع والوطن المليح والجاه الكبير والسلطان القليل النظير وعمل بمقتضى قوله موتوا قبل أن تموتوا فإن صحت الحال المرجوة من إمداد الله تنقلت الأقدام إلى أمام وقوى التعلق بعروة الله الوثقى وإن وقع العجز أو افتضح العزم فالله يعاملنا بلطفه وهذا المرتكب مرام صعب لكن سهله علي أمور: منها أن الانصراف لما لم يكن منه بد لم يتعين على غير هذه الصورة إذ كان عندكم من باب المحال ومنها أن مولاي لو سمح لي بغرض الإنصراف لم تكن لي قدرة على موقف وداعه لا والله! ولكان الموت أسبق إلي وكفى بهذه الوسيلة الحسنة التي يعرفها وسيلة ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به وأظن أني لا أصدق ومنها اغتنام المفارقة في زمن الأمان والهدنة الطويلة والاستغناء إذا كان الإنصراف المفروض ضروريا قبيحا في غير هذه الحال ومنها وهو أقوى الأعذار أني مهما لم أطق تمام هذا الأمر أو ضاق ذرعي به لعجز أو مرض أو خوف طريق أو نفاد زاد أو شوق غالب رجعت رجوع الأب الشفيق إلى الولد البر الرضي إذ لم أخلف ورائي مانعا من الرجوع من قول قبيح ولا فعل بل خلفت الوسائل المرعية والآثار الخالدة والسير الجميلة وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي وكبار وطني وأهل طوري وتركتكم على أتم ما أرضاه مثنيا عليكم داعيا لكم وإن فسح الله في الأمد وقضي الحاجة فأملى العودة إلى ولدي وتربتي وإن قطع الأجل فأرجو أن أكون ممن وقع أجره على الله فإن كان تصرفي صوابا وجاريا على السداد فلا يلام من أصاب وإن كان عن حمق وفساد عقل فلا يلام من اختل عقله وفسد مزاجه بل يعذر ويشفق عليه ويرحم وإن لم يعط مولاي أمري حقه من العدل وجليت الذنوب ونشرت بعدي العيوب فحياؤه وتناصفه بنكر ذلك ويستحضر الحساب من التربية والتعليم وخدمة السلف وتخليد الآثار وتسمية الولد وتلقيب السلطان والإرشاد إلى الأعمال الصالحة والمداخلة والملابسة لم يتخلل ذلك قط خيانة في مال ولا سر ولا غش في تدبير ولا تعلق به محار ولا كدره نقص ولا حمل عليه خوف منكم ولا طمع فيما بيدكم وإن لم تكن هذه دواعي الرعي والوصلة والإبقاء ففيم تكون بين بني آدم؟
وأنا قد رحلت فلا أوصيتكم بمال فهو عندي أهون متروك ولا بولد فهم رجالكم وخدامكم ومن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم ولا بعيال فهي من مزيات بيتكم وخواص داركم إنما أوصيكم بحظي العزيز كان على بوطنكم وهو أنتم فأنا أوصيكم بكم فارعوني فيكم خاصة أوصيكم بتقوى الله والعمل لغد وقبض عنان اللهو في موطن الجد والحياء من الله الذي محص وأقال وأعاد النعمة بعد زوالها لينظر كيف تعملون وأطلب منكم عوض ما وفرته عليكم من زاد طريق ومكافأة وإعانة زادا سهلا عليكم وهو أن تقولوا لي: غفر الله لك ما ضيعت من حقي خطأ أو عمدا وإذا فعلتم ذلك فقد رضيت واعلموا أيضا على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر وعند كل ملك واعتقاده وبره والسؤال عنه وذكره بالجميل والأذن في زيارته حنانة منكم وسعه ذرع ودها فإنما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت ثم أقشعت وترك الأزاهر تفوح والمحاسن تلوح ومثاله معكم مثل المرضعة أرضعت السياسة والتدبير الميمون ثم رفدتكم في مهد الصلح والأمان وغطتكم بقناع العافية وانصرفت إلى الحمام تغسل اللبن والوضر وتعود فإن وجدت الرضيع نائما فحسن أو قد انتبه فلم تتركه إلا في حد الانفطام ونختم هذه العزارة بالحلف الأكيد أني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين ولا في دنيا إلا وقد وفيت لكم ولا فارقتكم إلا عن عجز ومن ظن خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم والله يرشدكم ويتولى أمركم ويعول خاطركم في ركوب البحر.
انتهت نسخة الكتاب وفي طيها هذه الأبيات:
صاب مزن الدموع من جفن صبك ** عندما استروح الصيا من مهبك

كيف يسلو يا جنتي عنك وقد ** كان قبل الوجود جن بحبك

ثم قل كيف كان قبل انتشاء الر ** وح من أنسك الشهي وقربك

لم يدع ** بيتك المنيع حماه لسواه إلا بيت ربك

أول عذري الرضى فما جئت بدعا ** دمت والفضل والرضى من دابك

وإذا ما ادعيت كربا لفقدي ** أين كربي ووحشتي من كربك

ولدي في ذراك وكري في دو ** حك لحدي ووحشتي من كربك

يا زمانا أغرى الفراق بشملي ** ليتني أهبتي أخذت لحربك

أركبتني صروفك الصعب حتى ** جئت بالبين وهو أصعب صعبك

وكتب آخر النسخة يخاطبني:
هذا ما تيسر والله ولي الخيرة لي ولكم من هذا الخباط الذي لا نسبة بينه وبين أولى الكمال ردنا الله إليه وأخلص توكلنا عليه وصرف الرغبة كل ما لديه.
وفي طي النسخة مدرجة نصها:
رضي الله عن سيادتكم أونسكم بما صدر مني أثناء هذا الواقع مما استحضره الولد في الوقت وهو يسلم عليكم بما يجب لكم وقد حصل من حظوة هذا المقام الكريم على حظ وافر وأجزل إحسانه ونوه بجرايته وأثبت الفرسان خلفه والحمد لله.
ثم اتصل مقامي ببسكرة والمغرب الأوسط مضطرب بالفتنة المانعة من الاتصال بالسلطان عبد العزيز وحمزة بي راشد ببلاد مغراوة والوزير عمر بن مسعود في العساكر يحاصره بحصن تاجحمومت وأبو زيان العبد الوادي ببلاد حصين وهم مشتملون عليه وقائمون بدعوته.
ثم سخط السلطان وزيره عمر بن مسعود ونكر منه تقصيره في أمر حمزة وأصحابه فاستدعاه إلى تلمسان وقبض عليه وبعث به إلى فاس معتقلا فحبس هنالك وجهز العساكر مع الوزير ابن غازي فنهض إليه وحاصره ففر من الحصن ولحق بمليانة مجتازا عليها فأنذر به عاملها فتقبض عليه وسيق إلى الوزير في جماعة من أصحابه فضربت أعناقهم وصلبهم عظة ومزدجر الأهل الفتنة.
ثم أوعز السلطان بالمسير إلى حصين وأبي زيان فسار في العساكر واستنفر أحياء العرب من زغبة فأوعبهم ونهض إلى حصين فامتنعوا بجبل تيطري ونزل الوزير بعساكره ومن معه من أحياء زغبة على جبل تيطري من جهة التل فأخذ بمخنقهم وكاتب السلطان أشياخ الزواودة من رياح بالمسير إلى حصار تيطري من جهة القبلة.
وكاتب أحمد بن مزني صاحب بسكرة بإمدادهم بأعطياتهم وكتب إلي يأمرني بالمسير بهم لذلك فاجتمعوا علي وسرت بهم أول سنة أربع وسبعين وسبعمائة حتى نزلنا بالقطفة في جماعة منهم على الوزير بمكانه من حصار تيطري فحدلهم حدود الخدمة وشارطهم على الجزاء ورجعت إلى أحيائهم بالقطفة فاشتدوا في حصار الجبل وألجؤهم بسوامهم وظهرهم إلى قنته فهلك لهم الخف والحافر وضاق ذرعهم بالحصار من كل جانب وراسل بعضهم في الطاعة خفية فارتاب بعضهم من بعض وانفضوا ليلا من الجبل وأبو زيان معهم ذاهبين إلى الصحراء واستولى الوزير على الجبل بما فيه من مخلفهم ولما بلغوا مأمنهم من القفر نبذوا إلى أبي زيان عهده فلحق بجبال غمرة ووفد أعيانهم على السلطان عبد العزيز بتلمسان وفاؤا إلى طاعته فتقبل طاعتهم وأعادهم إلى أوطانهم وتقدم الوزير عن أمر السلطان بالمسير مع أولاد يحيى بن علي بن سباع للقبض على أبي زيان في جبل غمرة وفاء بحق الطاعة لأن غمرة من رعاياهم فمضينا لذلك فلم نجده عندهم وأخبرونا أنه ارتحل عنهم إلى بلد واركلا من مدن الصحراء فنزل على صاحبها أبي بكر بن سليمان فانصرفنا من هنالك ومضى أولاد يحيى بن علي إلى أحيائهم ورجعت أنا إلى أهلي ببسكرة وخاطبت السلطان بما وقع في ذلك وأقمت منتظرا أوامره حتى جائني استدعاؤه إلى حضرته فرحلت الله.